الرسالة التي لم تصل

رجل وحيد في بيت قديم، في زقاق ضيق من أزقة الإسكندرية العتيقة، كان يعيش رجل مسن يُدعى “حسن عمران”. تجاوز السبعين من عمره، ولم يكن له أحد سوى ذكرياته وبيته المتآكل من الزمن. لم يتزوّج، ولم يُعرف له أبناء، وكان يمضي أيامه بين القراءة والجلوس في شرفته الصغيرة يراقب المارة بصمت عميق.
كان الحي قديمًا كوجهه المتجعّد، تغلفه رائحة البحر والرطوبة، وكل ركن فيه يحمل قصة. لكن قصة حسن كانت هي الأكثر غموضًا. لم يكن كثير الكلام، وإذا سألته عن ماضيه، اكتفى بابتسامة متعبة، ويغيّر الحديث. لكنه في داخله، كان يحمل عبئًا لم يشارك به أحدًا.
صندوق خشبي تحت السرير
ذات مساء خريفي، وأثناء تنظيف غرفته، سقطت قطعة قماش قديمة عن زاوية السرير، لتكشف عن صندوق خشبي صغير. توقف حسن أمامه برهة، ثم انحنى ببطء ورفعه بين يديه المرتجفتين. تنهد تنهيدة طويلة كأن الزمن عاد به دفعة واحدة.
فتح الصندوق، فوجد داخله رسائل قديمة صفراء، رُبطت بخيط أحمر. كانت رسائل كتبتها فتاة تُدعى “ليلى” قبل خمسين عامًا، حين كان شابًا في مقتبل العمر. كانت حبيبته الوحيدة، لكنه فقدها ذات يوم دون وداع.
كانت الرسائل كلها مرسلة منه إليها، لكنها عادت إليه من دون أن تُفتح. جميعها مختومة بـ”لم تُسلَّم”. أرسل أكثر من عشر رسائل وقتها، وظل ينتظر ردًا، دون أن يأتيه شيء. ظنّ أنها نسيته، خانته، أو هاجرت دون رجعة. واليوم، بعد كل هذه العقود، قرر أن يقرأ رسائله لأول مرة.
رسائل مغموسة بالدمع
فتح الرسالة الأولى، وكانت كتابته لا تزال واضحة رغم تقادم الزمن. كتب فيها:
“ليلى،
هل تدرين كم أفتقدك؟ لقد أصبحت أيامي بلا لون منذ رحيلك، أنتظرك كل صباح كمن ينتظر قارب النجاة.”
توالت الرسائل، كل واحدة تنضح بحنين وقلق، وكل حرف فيها كُتب بقلب عاشق لم ينطفئ. ومع كل رسالة، كان حسن يبكي، كأنه يقرأ ألم قلبه لأول مرة.
لكنّ شيئًا في داخله ظل يتساءل: لماذا لم تصل الرسائل؟ لماذا لم ترد؟ أين اختفت؟ ولماذا أعادها البريد بعد شهور طويلة؟
زيارة إلى ماضي المدينة
في اليوم التالي، ارتدى حسن معطفه الرمادي، ومشى بخطوات متثاقلة إلى مكتب البريد القديم في الحي. سأل الموظف الجديد عن سجلات المراسلات القديمة، فدلّه على أرشيف مهمل في الطابق السفلي.
بين أكوام الغبار، وجد موظف كبير في السن يعرف اسم “ليلى عاصي”. قال له:
“أجل… كانت تعمل هنا. اختفت فجأة عام 1976. لا أحد عرف السبب، لكن قيل إنها تعرضت لحادث في القطار وهي في طريقها إلى أهلها بالصعيد.”
شعر حسن بدوار مفاجئ. لم يكن يعلم شيئًا عن الحادث. كل ما عرفه أنها اختفت من حياته فجأة، وظل قلبه معلقًا بسؤال واحد: “هل كانت تحبني كما أحببتها؟”
رحلة بحث متأخرة
لم ينم حسن تلك الليلة. قرر أن يعرف الحقيقة، ولو بعد نصف قرن. تواصل مع بعض الصحفيين القدامى الذين يحتفظون بأرشيف الجرائد القديمة. وبعد أيام من البحث، وجد خبراً صغيراً في عدد قديم يعود إلى شتاء 1976:
“وفاة موظفة البريد ليلى عاصي، إثر حادث قطار أثناء توجهها لقضاء عطلة في محافظة قنا. يُذكر أنها كانت تعمل على خط فرز الرسائل بين القاهرة والإسكندرية.”
وقع الخبر عليه كالصاعقة. لم تهجره… بل ماتت في طريقها. وربما كانت ذاهبة إليه، أو تحمل رسالة له لم تُكتب بعد. عندها فقط، انسكب دمعه بحرارة، ليس حزنًا فقط، بل راحة، لأنه أخيرًا عرف الحقيقة.
الرسالة الأخيرة
في الليلة التالية، جلس حسن على مكتبه الصغير، وأخرج ورقة نظيفة، وبدأ يكتب:
“ليلى،
لقد وصلني ردك أخيرًا. لم يكن بحروف، بل بصمتك الغائب، وبغيابك الذي كنت أفسره خطأ. سامحيني إن أسأت بك الظن، وسامحيني إن تأخرت في وداعك كل هذه السنوات.”
طوى الرسالة، ووضعها في ظرف أبيض، كتب عليه اسمها فقط، ووضعه في الصندوق الخشبي، ثم أغلقه بلطف.
الوداع الهادئ
مرت أيام قليلة، ثم وجده الجيران ذات صباح نائمًا في مقعده، ووجهه نحو النافذة. لم يكن نائمًا فقط، بل فارق الحياة بسلام، وبابتسامة هادئة لم يرها عليه أحد من قبل.
أبلغوا السلطات، وتم دفنه ببساطة، لكن أحد المتطوعين أثناء ترتيب أغراضه، عثر على الصندوق، وقرأ بعض الرسائل. فقرر أن يحتفظ بها كذكرى لرجل أحب بصدق، وانتظر دون أن يفقد الأمل.
انتشرت قصته لاحقًا على وسائل التواصل، وأصبحت رسائل “حسن إلى ليلى” تُقرأ في المنتديات والمقالات، بوصفها مثالًا على الوفاء الذي لا يذبل مهما مرّ الزمن.
في الختام
لم تكن “الرسالة التي لم تصل” مجرد ورقة بريدية، بل كانت حياةً كاملة لم تُكتب، ووجعًا ظلّ حبيس القلب حتى تنفّس أخيرًا. وربما في مكانٍ ما، كانت ليلى تنتظر أن تعرف أنه لم ينساها أبدًا.
تعليقات