المدينة التي لا تظهر على الخريطة

في منتصف ليلة شتوية قارسة، تلقّى “آدم” رسالة نصيّة من رقم غير معروف. كانت الرسالة قصيرة وغريبة:
“تعال إلى أورليا… نحن في انتظارك.”
لم يكن يعرف أي “أورليا”. اعتقد بدايةً أنها مزحة سخيفة أو إعلان ترويجي، لكنه لاحظ شيئًا أربكه: التوقيت. الرسالة وصلت في تمام الثانية عشر صباحًا، في لحظة تمامًا توقّف فيها التيار الكهربائي في الحي بأكمله لثوانٍ، قبل أن يعود فجأة. وكأن الرسالة هي التي تسببت في انقطاع الكهرباء.
البحث عن مدينة مفقودة
في اليوم التالي، بدأ آدم البحث عن “أورليا”. استخدم الخرائط الرقمية، المحركات البحثية، المنتديات، لكنه لم يجد أي إشارة لمدينة بهذا الاسم. حتى الخرائط الورقية التي احتفظ بها والده لم تذكرها. وكأن المدينة لم تكن موجودة… أو أنها لا تريد أن تُوجد.
رغم ذلك، كان هناك شيء ما في داخله يدفعه للمواصلة. إحساس داخلي بأنها موجودة، وأن عليه أن يجدها. بدأ يتحدث مع أصدقاء له في أقسام الجغرافيا والتاريخ، لكنهم إما سخروا منه أو تهرّبوا من الحديث.
الرجل ذو المعطف الرمادي
في أحد المقاهي القديمة وسط المدينة، جلس يفكر في الأمر، حين اقترب منه رجل مسن يرتدي معطفًا رماديًا ويضع قبعة قديمة. همس له دون مقدمة:
“أورليا ليست على الخريطة… لكنها موجودة.”
رفع آدم رأسه بدهشة، وقال:
“من أنت؟ وكيف عرفت؟”
ابتسم الرجل:
“لقد زرتها مرة… وخرجت. القليل من الناس يخرج منها.”
ترك له الرجل ورقة صغيرة عليها خريطة مرسومة يدويًا. وعندما حاول أن يسأله شيئًا، اختفى من المكان كأنه لم يكن.
الطريق إلى المجهول
في صباح اليوم التالي، قرر آدم أن يسلك الطريق الذي رُسم له. قاد سيارته باتجاه الجنوب، ومرّ بمناطق لا تظهر عادة في الطرقات المعتادة. كانت علامات الطريق تتغير بشكل غريب، وبدأت أجهزته الإلكترونية تتوقف واحدة تلو الأخرى.
بعد ثلاث ساعات من القيادة، وجد نفسه أمام مدخل حجري ضخم وسط غابة كثيفة. لا لافتات، لا إشارات، فقط بوابة من حجر رمادي وعليها نقش واحد:
“من دخل أورليا، نسي العالم… ومن خرج، لم يعد كما كان.”
الدخول إلى أورليا
بخطوات مترددة، تجاوز البوابة. فجأة شعر أنه انتقل من عالم إلى آخر. كل شيء بدا حيًا بطريقة غريبة، الأشجار كانت تتنفس، والهواء له رائحة لا يمكن وصفها. المدينة أمامه بدت وكأنها خرجت من لوحة خيالية: أبنية بارتفاع السحاب، أنهار من ضوء، وسكون أشبه بالخلود.
المفارقة العجيبة… لم يكن فيها بشر. كانت المدينة مليئة بالأصوات، لكنها خالية من الوجوه. كل شيء يعمل، لكن لا أحد يديره.
أصوات من اللاشيء
بينما كان يسير في أحد الأزقة، سمع صوتًا يناديه باسمه:
“آدم…”
نظر حوله، فلم يرَ أحدًا. ثم جاء الصوت ثانية:
“لقد جئت أخيرًا.”
ظهر أمامه فجأة صبي صغير، لم يتجاوز العاشرة من عمره، يرتدي ملابس بيضاء ويتوهج وجهه بضوء باهت. قال له:
“أنا ظلّك. أتيت لترى ما أخفيته عن نفسك.”
المرآة السوداء
قاده الصبي إلى بناء دائري في وسط المدينة، يشبه القبة، وفي داخله مرآة ضخمة سوداء. قال له الصبي:
“انظر فيها، وستفهم كل شيء.”
نظر آدم إلى المرآة، فتغيرت انعكاساته إلى صور من طفولته، من شبابه، من قرارات ندم عليها، من لحظات لم يتحدث عنها أبدًا. كأن المدينة لا تقرأ الماضي فقط… بل تقرأ الروح.
ثم بدأ يرى أشخاصًا يشبهونه تمامًا، لكنهم يسلكون طرقًا مختلفة في الحياة. في كل صورة، حياة لم يعشها. قال له الصوت:
“كل قرار لم تتخذه… كل طريق لم تمشِ فيه… أورليا تحتفظ به.”
الاختيار
في نهاية الرؤية، ظهر أمامه كرسي حجري عليه كتاب مفتوح. في داخله، سطور مكتوبة بلغة غريبة، لكنه كان قادرًا على قراءتها. كانت تسأله سؤالًا واحدًا:
“هل تريد أن تعود؟ أم تبقى هنا، وتعيش الحياة التي لم تخترها؟”
تردّد. رأى أمامه نسخته التي اختارت البقاء، تعيش بسلام في هذه المدينة الساحرة، بلا ألم، بلا ندم. ونسخة أخرى تخرج من البوابة، وتعود إلى عالم مليء بالضجيج والتعب.
العودة من العالم الموازي
بإرادة مفاجئة، قرر أن يعود. رغم كل شيء، أراد أن يعيش حياته التي اختارها، بقراراته، بأخطائه. لم يكن يبحث عن الكمال، بل عن الحقيقة.
في اللحظة التي اتخذ فيها القرار، بدأت المدينة تتلاشى. كل شيء بدأ ينهار في صمت، كأنها لم تكن إلا انعكاسًا لحالة من اللاوعي. أغمي عليه، ولم يشعر بشيء بعدها.
الاستيقاظ
استيقظ آدم في سيارته، على جانب الطريق، قرب الغابة. كان النهار قد بزغ. هاتفه عاد للعمل، لكن لا وجود لأي رسالة. الخريطة اليدوية اختفت، والرجل العجوز لم يُر له أثر.
لكنه حين فتح ألبوم الصور، وجد صورة واحدة لم يرها من قبل: صورة له وهو يقف أمام البوابة الحجرية، والعبارة محفورة بوضوح. كانت الدليل الوحيد على أنه لم يكن يحلم.
نهاية مفتوحة
عاد إلى حياته، لكنه لم يعد كما كان. أصبح يرى العالم بطريقة مختلفة. أدرك أن هناك مدنًا لا تظهر على الخريطة، لأنها موجودة داخلنا، حيث نحفظ قراراتنا الضائعة وأحلامنا المؤجلة.
ومنذ ذلك اليوم، لم يعد يبحث عن “أورليا”… لأنه عرف أن كل إنسان يحمل مدينته التي لا تظهر، وتنتظر لحظة ضعف أو شجاعة، لتكشف عن وجهها.
تعليقات