مدينة لا يزورها النهار وصول بلا دعوة

حين نزل “سُهيل” من القطار، لم يكن يتوقع أن المدينة التي سمع عنها صدفة في حديث رجل غريب ستكون حقيقية. مدينة “أورفال” لم تظهر على الخرائط، ولا في محركات البحث، ولا حتى في أحاديث السكان المحليين. لكنها ظهرت له، بل دعته إليها دون أن يدري.
المدينة كانت مغطاة بسواد رمادي، لا هو ليل ولا هو نهار، بل ضباب كثيف كأن الشمس قررت أن تدور حولها دون أن تلمسها أبدًا. ساعة وصوله كانت الرابعة مساءً، ومع ذلك، بدا الجو وكأنه منتصف الليل.
وجوه لا تبتسم
سكان المدينة كانوا يمشون في صمت، يلبسون ملابس داكنة، ولا يلتفت أحد إلى الآخر. لم يرَ طفلاً ولا سمع ضحكة، حتى أصوات الطيور غائبة. طرقات المدينة مرصوفة بحجارة سوداء ناعمة، تنعكس عليها أضواء المصابيح القديمة كأنها دموع لامعة على خد قديم.
اقترب من أحد المارة ليسأله عن فندق أو نُزُل، لكن الرجل اكتفى بإيماءة سريعة نحو مبنى حجري في زاوية الشارع. دخل سُهيل دون تفكير، فقد كان يشعر بأن قدميه لا تتحركان بإرادته.
النُزُل والمرأة
في بهو النُزُل، جلست امرأة في أواخر الأربعينات، بشعر رمادي مرتب بعناية، تحدق فيه بعينين واسعتين تلمعان في الظلام. قالت له بهدوء:
“كنت أعلم أنك ستأتي.”
ارتبك، لكنه سألها: “هل هذه أورفال؟ المدينة التي لا تشرق فيها الشمس؟”
أجابت: “بل المدينة التي لا تحتاج الشمس لتراك.”
ناولته مفتاحًا، دون أن تطلب منه بطاقة هوية، ولا حتى مالاً. الغرفة كانت في الطابق الثالث، في نهاية الممر. لم تكن هناك أرقام على الأبواب، فقط رموز غريبة محفورة على الخشب.
الغرفة والنوافذ المغلقة
دخل غرفته، فوجدها نظيفة بشكل غير واقعي. كل شيء بترتيب مبالغ فيه، كأن أحدهم يعيد ترتيبها كل دقيقة. على الطاولة كتاب ضخم بغلاف جلدي، لا عنوان له، لكنه مفتوح على صفحة بيضاء لا نهاية لها.
حاول فتح النوافذ، لكنها لم تكن نوافذ بالمعنى الحقيقي، بل زجاج أسود معتم لا يعكس سوى صورته وهو ينظر. جلس على السرير، ثم نهض، ثم جلس مجددًا. الوقت لا يتحرك في “أورفال”، لكنه يشعر بثقله.
أصوات من الحائط
في تلك الليلة، سمع سُهيل أصوات همسات خافتة تأتي من داخل الجدران. ليست مزعجة، بل موسيقية، كأن أحدهم يقرأ شعرًا في بعد آخر. اقترب من الحائط، ووضع أذنه عليه، فسمع اسمه يتكرر بصوت خافت:
“سُهيل… سُهيل… عدت أخيرًا…”
ابتعد، قلبه يخفق. هل هذه المدينة تعرفه؟ أم أنه وقع في وهم؟
حاول الخروج، لكن باب الغرفة كان مغلقًا، والمفتاح اختفى من جيبه.
لقاء في الطابق السفلي
في صباح اليوم التالي، أو ما ظنه صباحًا، نزل إلى الطابق الأرضي. لم يجد المرأة، ولا موظفين، ولا حتى ضوءًا. فقط سلم حجري يؤدي إلى قبو غارق في السواد. تردد للحظة، ثم نزل.
في القبو، التقى بشخص يرتدي معطفًا طويلاً، وجهه مغطى بقبعة. قال له:
“كل من يصل إلى أورفال، جاء ليبحث عن شيء أضاعه.”
أجابه سُهيل بصوت مرتجف: “أنا لم أضع شيئًا…”
قال الرجل: “بل أضعت نفسك.”
ثم اختفى.
ذكريات المدينة
بدأت تظهر في ذهنه ذكريات لم يعشها. شارع طويل، دراجة مكسورة، طفل يبكي تحت المطر، امرأة تصرخ من نافذة. مشاهد متداخلة، كأن المدينة تحاول أن تحكي له قصة لم يسمعها من قبل.
عاد إلى الغرفة فوجد الكتاب قد امتلأ بالكتابة، لكن بلغة لم يعرفها. رغم ذلك، كان يفهم كل كلمة. الكتاب كان يسرد قصة حياته، منذ ولادته وحتى دخوله المدينة.
وفي الصفحة الأخيرة:
“إذا أردت أن تغادر أورفال، عليك أن تتذكر ما جئت تنساه.”
الذكرى الضائعة
بدأ سُهيل يغوص في أعماق عقله، يبحث عن شيء فقده ولم يشعر. تذكر أنه قبل أيام فقط، كان قد تلقى خبر وفاة والدته، لكنه لم يحزن. كأنه كان خائفًا من الشعور. فر من المنزل، ومن كل شيء.
الآن فقط، شعر بالبكاء. بكاء حقيقي، صامت، طويل. المدينة كانت تنتظر هذه اللحظة.
الخروج من الظلال
في اليوم التالي، حين استيقظ، وجد النوافذ مشرقة بضوء خافت، لم يكن ضوء شمس، بل نور داخلي دافئ. خرج من الغرفة، فوجد المدينة تتنفس، الوجوه تبتسم، الأطفال يلعبون.
المرأة عند مكتب الاستقبال كانت في مكانها. قالت له:
“أورفال لا تزور أحدًا إلا من كان بحاجة إلى العتمة ليعرف معنى الضوء.”
ناولته ظرفًا صغيرًا، داخله صورة له وهو طفل، في حضن والدته، وتحتها كلمة بخط يد قديم:
“الذكرى هي الباب الوحيد للخروج.”
وداع غير نهائي
خرج من المدينة دون أن يشعر بالخطوات. وصل إلى محطة القطار، ركب أول قطار مرّ، ولم ينظر خلفه.
وحين حاول أن يبحث لاحقًا عن المدينة… لم يجد لها اسمًا، ولا خريطة، ولا أي دليل.
لكنه يعرف الآن، أن بعض المدن لا تسكن الأرض، بل تسكن الذاكرة.
وأن “أورفال” لم تكن مكانًا… بل لحظة تأمل في الظلام، لا تُنسى.
تعليقات