الساعة التي تأخرت عمداً

مكالمة لم تُرد ، في ظهيرة يوم أربعاء، جلس “كريم” في مكتبه يتصفح البريد الإلكتروني، متجاهلًا للمرة الثالثة مكالمة من رقم والده. كان مشغولًا جدًا، أو هكذا كان يقول لنفسه.
“سأتصل به لاحقًا، ما الجديد الذي سيقوله؟ نفس الحديث، نفس التكرار.”
لم يكن هناك خصام بينهما، فقط مسافة نشأت مع الوقت. ربما بسبب العمل، أو بسبب طباع الأب الصارمة التي لم تتغير رغم مرور السنوات. لكن “كريم” لم يدرك أن تلك المكالمة كانت مختلفة.
الساعة القديمة
في مساء نفس اليوم، عاد كريم إلى شقته الصغيرة. وضع مفاتيحه على الطاولة بجانب ساعة الحائط التي ورثها عن والدته. كانت الساعة هدية من والده يوم زفافهما، وكان يحتفظ بها رغم أنها توقفت منذ أعوام.
عندما التفت إليها تلك الليلة، لاحظ شيئًا غريبًا… الساعة تحركت. عقرب الدقائق ارتجف قليلاً ثم توقف على “6:45”. لم يكن يعلم أن هذا هو الوقت الذي توقفت فيه نبضات قلب والده في غرفة المستشفى.
الخبر
في صباح الخميس، استيقظ على صوت رنين متواصل. المتصل هذه المرة كان “حسام”، ابن خاله، قال بصوت مختنق:
“عمي توفي يا كريم… توفي أمس في المساء، حاول يتصل بيك أكثر من مرة.”
تجمد كريم. الكلمات لم تصل إليه كاملة. سأل بصوت خافت:
“في أي ساعة؟”
أجاب حسام: “حسب الأطباء… 6:45 مساءً.”
رحلة بلا وداع
ذهب كريم إلى بيت العائلة، دخل المنزل فلم يجد إلا صمتًا كثيفًا يملأ الزوايا. في غرفة والده، وجد الكرسي الخشبي الذي طالما جلس عليه، والمصحف المفتوح على ذات الصفحة، والوسادة المرتبة بعناية.
ووجد على الطاولة بجوار السرير هاتف والده، وعليه ثلاث مكالمات لم يُجب عليها… جميعها موجهة إليه.
رسالة غير مكتملة
في جيب معطف والده، وجد ورقة مطوية. بخط متعب، كتب فيها الأب:
“كريم، أردت فقط أن أحدثك الليلة، أن أراك إن استطعت، لا شيء مهم، فقط اشتقت.”
لم تكن هناك نهاية للرسالة، وكأن الموت بتر الكلمات قبل أن تكتمل. لم يجد كريم دموعًا يبكي بها، بل فقط إحساس خانق كأن الزمن التهم شيئًا لم يُعطَ فرصة للحياة.
الندم كضيف دائم
مرّت أيام العزاء، والناس تأتي وتذهب، لكن كريم بقي في نفس المكان النفسي. لم يعد كما كان. أصبح صامتًا، يتأمل كثيرًا، يسأل نفسه مرارًا:
“ماذا لو كنت أجبت؟ ماذا لو قلت له ببساطة: أحبك يا أبي؟”
لكنه لم يفعل، ولن يستطيع. لقد أصبح الندم ضيفه الدائم، يزوره كلما نظر إلى تلك الساعة القديمة، التي عادت للحياة في لحظة موت.
زيارة مختلفة
بعد أسبوعين، زار كريم قبر والده لأول مرة منذ الدفن. لم يكن من النوع الذي يؤمن بالكلمات عند القبور، لكنه وقف هناك طويلًا، يتحدث بصوت داخلي:
“كنت بعيدًا… ليس لأنني لا أحبك، بل لأنني خفت من أن أراك ضعيفًا، خفت أن أراك في آخر أيامك.”
أغلق عينيه، وتمنى أن تصله الكلمات. أن يكون في مكان ما يستمع إليه.
ثم وعده، وهو يضع يده على شاهد القبر:
“سأزورك كل أسبوع. لن أتأخر عنك مرة أخرى.”
الساعة مجددًا
في ليلة عودته من المقبرة، نظر إلى ساعة الحائط. كانت تشير إلى “6:45” مجددًا، لكن هذه المرة لم يشعر بالحزن. بل شعر أنها تذكره… لا توقظه.
جلس أسفلها، وبدأ يكتب رسالة لنفسه:
“لا تؤجل المحبة. لا تنتظر أن يطلبها الآخر. قلها الآن. لأن الغد ليس وعدًا، بل احتمال.”
ومنذ ذلك اليوم، أصبحت الساعة المعلّقة على الحائط، هي أكثر ما يوقظه كل صباح، رغم أنها لم تعد تعمل.
تعليقات