المدينة التي لا تنام

في أقصى شمال القارة العظمى، حيث تتعانق الجبال مع الضباب، وتغلف السهول بظلال رمادية، وُجدت مدينة عجيبة تُدعى “أورانا”. مدينة لم تعرف الظلام يومًا، ولا طرقها خلت من الأضواء أو الخطى. كانت أورانا مدينة يقظة دومًا، لا تغفو، لا تهدأ، ولا تمنح سكانها لحظة استراحة واحدة.
لم تكن أورانا مدينة اعتيادية، فهي لم تُبْنَ على أرض الواقع فحسب، بل نشأت فوق أساس من الخوف. الخوف من النوم. قيل إن المدينة تعرضت في قرون سابقة لمأساة عظيمة حين قرر أهلها الدخول في سبات جماعي لتحقيق “رؤية خالدة”، فأفاقوا ليجدوا أن الزمن قد التهم قرنًا من حياتهم، وأن أحبابهم اختفوا، وأن الحلم ذاته خانهم.
منذ ذلك الحين، صار النوم في أورانا فعلاً مدنسًا، يُمنع تداوله، يُحظر ذكره. نُسيت الأحلام، واندثرت الكوابيس، وحلت محلها ساعات متواصلة من الوعي، والضجيج، والعمل المستمر.
نيرفان: الغريب بين أبناء مدينته
في أحد الأحياء القديمة بأورانا، كان هناك شاب يُدعى نيرفان، في الخامسة والعشرين من عمره. عُرف بين جيرانه بالهدوء والعزلة، وبتلك النظرات التي دائمًا ما توحي بأنه يبحث عن شيء لا يراه أحد سواه. كان يعمل في أرشيف المكتبة الكبرى، وهي مكان لا يزوره الكثيرون في مدينة تعيش في الحاضر الدائم.
قضى نيرفان أيامه بين الكتب القديمة والمخطوطات المهملة. لم يكن يبحث عن المعرفة فحسب، بل عن ماضٍ مفقود. شيء ما كان ينقصه، شعور داخلي بأن هذا الوعي المستمر الذي تعيشه المدينة ليس طبيعيًا.
وذات مساء، وبينما كان ينفض الغبار عن أحد الرفوف السفلية، سقط كتاب جلدي مهترئ. تصفحه بفضول، فلم يجد فيه سوى صفحات فارغة، عدا الصفحة الأخيرة التي كُتب عليها بخط غير منتظم:
“حين تنام، ترى الحقيقة.”
توقف قلبه لحظة. لم يقرأ هذه الكلمة من قبل: “تنام”. لم تُذكر في أي كتاب درسه، ولا في أي وثيقة في أرشيف المدينة. شعر وكأنه عثر على كنز محظور، أو لعنة قديمة نُسي ذكرها عمدًا.
البذرة الأولى للحلم
بدأ نيرفان يطرح الأسئلة. ما هو النوم؟ ماذا تعني الأحلام؟ هل يمكن للذهن أن يرحل إلى مكان آخر؟ لم يجد أجوبة. حتى حين بحث في أرشيف المحظورات، لم يجد إلا إشارات مبهمة، وملفات أغلقت بأوامر قديمة من مجلس الحُكماء.
لكنّه لم يتوقف. في الليالي التالية، جرب أن يُغمض عينيه طويلاً. أطفأ الأضواء، وضع رأسه على وسادة ناعمة جلبها من بائع آثار قديم، وأجبر جسده على السكون. لكن عقله ظل يرفض الاستسلام. لم يتعلم سكان أورانا كيف ينامون، لم يعرفوا كيف يطفئون أنفسهم مؤقتًا.
حتى جاءت تلك الليلة. سكنت فيها المدينة أكثر من المعتاد، وكان هو مرهقًا بعد يوم من البحث العقيم. أغلق عينيه لا إراديًا، و… انطفأ.
اللقاء الأول بالأحلام
رأى مدينة تشبه أورانا، لكن الألوان فيها أكثر وضوحًا، والهواء ألين، والناس يسيرون بهدوء، يهمسون لبعضهم، ويضحكون بلا ضجيج. رأى أطفالًا يركضون في حقول لا نهاية لها، وشمسًا تغرب بهدوء دون أن يخاف أحد من الظلام.
رأى نفسه وسطهم، يرتدي عباءة بيضاء، ويبتسم كأنه عاد طفلًا. ثم اقتربت منه امرأة لم يرها من قبل، لكنها بدت مألوفة، وقالت:
“نيرفان… أنت آخر الحالمين.”
استيقظ فجأة. كانت الغرفة مظلمة، صدره يعلو ويهبط كأنه ركض أميالاً. لأول مرة في حياته، شعر بأنه “حي” بحق.
حكاية الرجل ذو اللحية البيضاء
بعد ذلك الحلم، تغيّر كل شيء. بدأ نيرفان يسجل ما يراه كل ليلة، ويكتشف أن الأحلام ليست مجرد صور، بل رسائل. كانت تأتيه رموز، أسماء، خرائط، وتاريخ مدينته الحقيقي الذي لم يُروَ قط.
وذات مساء، دخل رجل غريب إلى المكتبة، له لحية بيضاء كثيفة، وعيون بريقها يشبه النجوم. قال له دون مقدمات:
“حين حلمتَ، استيقظ التاريخ.”
ثم أخرج من عباءته كتابًا صغيرًا جلديًا، وضعه أمامه وقال:
“اقرأه في العتمة فقط.”
اختفى الرجل كما ظهر. فتح نيرفان الكتاب حين عاد لمنزله، وفوجئ بأنه لا يظهر إلا حين يُطفئ المصباح. وكان الكتاب يحكي… كل شيء. عن أورانا قبل أن تُمنع الأحلام، عن تجربة قديمة حاول فيها حكماء المدينة التحكم في الزمن عبر تقنية تدعى “الحلم المتوازي”، لكنها أدت إلى كارثة زحزحت المدينة من توازنها، ومن يومها، نُزع النوم من الناس.
إشعال الفتيل
لم يعد نيرفان قادراً على الصمت. بدأ يُرسل رسائل سرية داخل الكتب المستعارة في المكتبة. كتب فيها مقاطع من حلمه، إشارات إلى أن هناك حياةً أخرى خلف الجفن المغلق، وأن ما يعيشونه ليس سوى نصف الوجود.
وصلت هذه الرسائل إلى البعض، وتشكّلت دائرة سرية من الأشخاص الذين حاولوا تقليده، وفوجئوا بأنهم أيضًا بدأوا يحلمون. وكلما زاد عدد الحالمين، زادت اضطرابات الطاقة في المدينة. كانت الأنظمة تُسجل خللاً في الأجهزة، وانقطاعات في الإضاءة، كأن المدينة بدأت تستشعر التغيير.
الخروج من الظلال
وقف نيرفان يومًا في الساحة المركزية، تحت ساعة المدينة القديمة، وصاح بأعلى صوته:
“لقد حلمت!”
سادت لحظة من الذهول. ثم بدأ البعض يقتربون. همس أحدهم: “أنا أيضًا… رأيت الضوء من الداخل.” وآخر قال: “رأيت أبي المتوفى، في حقل من البنفسج.”
كان الحلم يُعيد البشر إلى إنسانيتهم.
لكن السلطة لم تصمت. أرسلت الحُكماء إنذارًا عامًا يحذر من “الانغماس في خرافات اللاوعي”، وبدأت عمليات اعتقال للحالمين. اختفى بعضهم، وفر آخرون إلى المناطق القديمة من المدينة.
مدينة الحالمين
في النهاية، اختفى نيرفان أيضًا. لكن قبل رحيله، ترك كتابًا مفتوحًا في المكتبة، كتب فيه:
“حين تنام، ترى الحقيقة. حين تحلم، تعود إنسانًا.”
تقول الشائعات إنه أسّس مدينة سرية تحت الأرض تُدعى “نوميا”، لا يدخلها إلا من يعرف كيف يغلق عينيه دون خوف. مدينة صامتة، لا ضوء فيها ولا ضوضاء، لكنها مليئة بالحياة من الداخل.
أما أورانا، فبدأت تتغير ببطء. توقفت بعض الأضواء فجأة، خفت الضجيج، وبعض السكان بدأوا يغفون للحظات. وكأن الحلم، عاد ليطرق أبواب القلوب.
تعليقات