الصورة الأخيرة في الهاتف الذكرى التي لم تُمحَ

الصورة الأخيرة في الهاتف الذكرى التي لم تُمحَ
الصورة الأخيرة في الهاتف

في زحمة الأيام وتسارع الأحداث، اعتاد “حسن” أن يوثق لحظاته بكاميرا هاتفه، دون أن يراجع ما التقطه. لم يكن من أولئك الذين يفتحون ألبوم الصور كل ليلة ويسترجعون الوجوه. لكن ما حدث في ذلك اليوم، غيّر هذه العادة إلى الأبد.

كان يوم جمعة، عاد من العمل مرهقًا، وأراد فقط أن يرتاح. جلس على الأريكة وتصفح هاتفه بلا هدف. مرّر الصور كعادته، حتى توقفت أصابعه عند صورة غريبة. لم يتذكر أنه التقطها. لم تكن لها علاقة بأي مناسبة، ولم يظهر فيها وجه مألوف. لكنها مع ذلك، شدته.

الصورة الغامضة

كانت الصورة لشارع ضيق، يبدو كأحد شوارع “السيدة زينب”، وقد التُقطت في وضح النهار، رغم أنه لم يزر هذا الحي منذ سنوات. على الرصيف، تجلس امرأة عجوز ترتدي عباءة سوداء، تنظر إلى الكاميرا مباشرة، وكأنها كانت تعلم أنه يصوّر.

الغريب أن خلفيتها كانت مطموسة، كأن الزمن نفسه توقف حولها. لم يظهر في الصورة إلا هي، ووجهها الحاد الذي بدا مألوفًا بشكل مزعج. حاول تذكر متى زار هذا الشارع، لكنه فشل.

رحلة البحث عن الإجابة

دفعه الفضول، بل القلق، للبحث عن تفاصيل الصورة. فحص بياناتها، فوجد أنها التُقطت قبل يومين، في الساعة الثالثة مساءً. في هذا الوقت كان في العمل، داخل مكتبه الذي يطل على شارع رئيسي. لا يمكن أن يكون هو من التقط الصورة.

ظن بداية أن الأمر مجرد خلل تقني، لكنّه لم يقتنع. قرر أن يزور ذلك المكان، عله يتأكد من حقيقته. أرسل الصورة إلى حاسوبه، وطبعها، ثم بدأ يقارنها بخريطة “جوجل” حتى وجد الشارع، بالفعل يقع في حي السيدة زينب، ويبدو مطابقًا.

الشارع الذي يخبئ الذكريات

في صباح السبت، ارتدى ملابسه وركب المترو متجهاً إلى العنوان. مشى في الشارع نفسه، ولاحظ أن كل شيء كما في الصورة… نفس الأرصفة، نفس النوافذ القديمة، وحتى المقهى الصغير على الزاوية. لكنه لم يجد المرأة.

سأل أحد الباعة هناك:
“عمي، حضرتك شفت الست دي قبل كده؟”
أخذ الرجل الصورة وتأملها طويلاً، ثم قال:
“آه… دي أم عزيزة. كانت قاعدة هنا زمان، بس ماتت من سنتين!”

تجمد حسن في مكانه.
“ماتت؟! حضرتك متأكد؟”
قال البائع بحزم:
“أكيد. كانت مشهورة في الحتة، وكانت دايمًا بتقعد على الرصيف ده… بس عمرنا ما شوفناها من سنتين.”

الشك يتسلل

عاد حسن إلى بيته في حيرة شديدة. قلبه يدق بعنف، وعقله لا يستوعب. كيف تظهر في صورة التُقطت قبل يومين امرأة ماتت قبل عامين؟ أهو خيال؟ خدعة بصرية؟ أم أن هناك شيئًا أعمق لا يمكن تفسيره؟

أعاد فحص هاتفه من جديد. لاحظ شيئًا آخر هذه المرة. في زاوية الصورة، تظهر لوحة صغيرة على أحد الجدران مكتوب عليها اسم محل… “أحذية الخولي”. فكر لثوانٍ، ثم تذكر أن هذا الاسم كان لورشة قديمة كان يمتلكها والده، لكنها أُغلقت منذ سنوات.

العودة إلى الوراء

هنا، انقلبت الصورة إلى مفتاح لذاكرة منسية. قرر حسن أن يذهب إلى بيتهم القديم في شبرا، حيث قضى طفولته. لم يزره منذ عشر سنوات. كانت العمارة كما تركها، قديمة، متهالكة، لكنّها ما زالت صامدة.

صعد الدرجات، وعندما وصل إلى باب الشقة، وقف لحظات يتردد. طرق الباب، ولم يجبه أحد. أخرج المفتاح القديم الذي احتفظ به في محفظته دائمًا، وفتحه. دخل إلى الشقة المهجورة، وبدأ يفتش في الأدراج القديمة.

الصندوق الحديدي

في خزانة والدته، وجد صندوقًا حديديًا صغيرًا مغلقًا بقفل. تذكر أن والدته كانت دائمًا تخبئ فيه “الصور القديمة”. كسر القفل بصعوبة، وبدأ يُقلّب في محتواه.

كانت الصور باهتة، لكن إحداها جعلته يتجمد. كانت صورة لامرأة تجلس على الرصيف… نفس الوجه، نفس العباءة السوداء، ونفس النظرة. على ظهر الصورة، مكتوب:
“خالتي فهيمة – تصوير: والدي – 1982”

اكتشاف الصلة

جلس حسن أرضًا، ممسكًا بالصورة كأنها كنز. تذكّر والدته، وتذكر أنها كانت تحكي عن خالة اختفت في ظروف غامضة. لم يصدق الحكاية وقتها. لكن الآن… الخالة التي لم يرها يومًا، ظهرت في هاتفه، بعد أربعين عامًا، بنفس الهيئة!

بدأ يشعر أن هناك رسالة ما… شيء ما تحاول الصورة إيصاله له. تساءل: هل كانت تبحث عن أحد ليتذكرها؟ هل أرادت أن تُبعث من النسيان؟ أم أن هناك سرًا في العائلة لم يُكشف بعد؟

الرسالة في الهاتف

في تلك الليلة، بينما كان يقلب في إعدادات الهاتف، وجد شيئًا غريبًا. تطبيق الكاميرا أظهر إشعارًا بأنه تم “التقاط صورة تلقائية عن طريق الاستجابة لأمر صوتي”. دقق في الوقت، فكان هو وقت الصورة بالضبط.

لكن لا أحد كان في الغرفة آنذاك. ولا يوجد صوت مسجل. راودته فكرة مجنونة… ماذا لو أن شخصًا ما، من عالم آخر، حاول أن يتواصل معه؟ أن يرسل له صورة تحمل أثرًا من روح قديمة؟

الختام المفتوح

في الأيام التالية، أصبح حسن يشعر بوجود غير مرئي يرافقه. لم تكن أوهامًا، بل إحساسًا قويًا. لكنه لم يخَف. بل أحس أن الصورة حررته من نسيان طويل. أن هناك روابط في الحياة لا تقطعها السنوات ولا الموت.

أغلق هاتفه، واحتفظ بالصورة الورقية في محفظته. وكلما شعر بالضياع، نظر إليها، وابتسم. لم يعد بحاجة لتفسير. كان يكفيه أنه رأى وجهًا من ماضيه… يخبره: “أنا هنا، ولم أنسَك”.