مدينة الظلال الرحلة التي لم تُخطط

لم يكن “يوسف” يتوقع أن تتحول رحلته إلى الريف المهجور في أطراف “المقطم” إلى نقطة تحول في حياته. كان يعمل ككاتب مستقل يبحث عن مادة غريبة لروايته الجديدة، وسمع عن بلدة مهجورة لا تُذكر في الخرائط تُدعى “الظل”. الغريب أنها ليست موجودة على أي سجل رسمي، ومع ذلك، يتحدث عنها بعض العجائز كأنها أسطورة.
ركب سيارته صباحًا، متسلّحًا بكاميرته ودفتر ملاحظاته، وقاد لساعات في طرق ترابية حتى بلغ أطلالًا بين الجبال، بدت كأنها تنتمي لقرن آخر. هناك، كان المدخل: بوابة حجرية نصف مدمّرة، مكتوب أعلاها بحروف باهتة: “مرحبًا بك في مدينة الظلال”.
مدينة بلا أصوات
ما إن خطا يوسف داخل المدينة حتى لاحظ شيئًا غريبًا. كانت الشوارع مرصوفة بدقة، والبيوت قائمة لكنها مغطاة بطبقة من الغبار الأسود، كما لو أن المكان كله تعرّض لكسوف أبدي. لا توجد طيور، لا رياح، لا حتى صدى لخطواته. فقط صمت، كثيف كأنك تغوص في بحر بلا ضوء.
دخل أحد البيوت. الأثاث لا يزال كما هو، لكن مغطى بملاءات رمادية. وعلى الجدران، صور لأشخاص لا وجوه لهم. مجرد ظلال بشرية، مفرغة من التفاصيل. شعر بقشعريرة، لكنه تابع تقدّمه داخل البلدة.
المقبرة التي تنبض
في نهاية الطريق، رأى مقبرة. توجّه إليها، فلاحظ شيئًا لا يُصدق. كل شاهد قبر كان يحمل اسمًا واحدًا: “يوسف خليل”. وكل واحد يحمل تاريخ وفاة مختلف، وكلها تواريخ مستقبلية!
حاول أن يقنع نفسه أن هذا محض مصادفة أو خدعة من السكان القدامى، لكنه حين لمس أحد الشواهد شعر بحرارة كأن الدم يجري تحته. عندها، سمع الهمس لأول مرة.
كان صوتًا نسائيًا، ناعمًا لكنه حازم:
“لقد وصلت قبل الموعد، يوسف.”
اللقاء مع الظل
استدار ببطء، ليجد امرأة واقفة خلفه، ترتدي ثوبًا أسود طويلًا، وعيناها لامعتان بلا بياض. لم تكن بشرًا بالمعنى التقليدي، لكن ملامحها كانت مألوفة. قال بدهشة:
“من… أنتِ؟”
ابتسمت ابتسامة غريبة وقالت:
“أنا الذاكرة التي نسيتها، والحقيقة التي هربت منها. أنا ظلّك يا يوسف، والمدينة كلها خُلقت من أجلك.”
أراد أن يهرب، أن يصرخ، لكن قدميه تجمدتا. كانت المدينة تنبض من حوله. الجدران تنبض كالقلوب، والسماء فوقه أصبحت رمادية بالكامل. لم يعد هناك شمس.
ممر الندم
أمسكته من يده، وسحبته داخل زقاق ضيق لا نهاية له، تُنار أطرافه بتوهج غريب. على الجدران، بدأ يرى مشاهد من حياته، لكنها ليست كما يتذكر. رأى نفسه وهو يخون صديقه الوحيد، يخذل والدته، يهمل رسائل حبيبته الأولى.
صرخ: “هذا ليس حقيقيًا! أنا لست هذا الشخص!”
أجابت بصوت ثابت:
“بل هذا أنت… الصورة التي أخفيتها عن نفسك.”
تقدم أكثر داخل الممر، وكل خطوة كانت تثقل قلبه. أحس أنه يعيش كل ذنب مرة أخرى. في نهايته، وجد مرآة ضخمة، لكنها لم تعكس صورته. بل عكست جسدًا بلا ملامح. كان “هو”… لكن بلا ذات.
الحقيقة الملعونة
قالت المرأة:
“أنت كتبت نهاية هذه المدينة دون أن تدري. كل خطأ، كل قرار جبان، كل تراجع، كان طوبة في جدارها. أنت لم تأتِ لتكتب قصة عنها، بل لتعيش نهايتك.”
بدأ المكان ينهار ببطء. الشوارع تذوب، الأبواب تنغلق، والسماء تنشقّ كأنها صفحة تُمحى. حاول يوسف الهرب، لكنه كان محاصرًا. في لحظة انهيار تام، صاح:
“أعطني فرصة أخرى! أريد أن أعيش!”
أجابت بصوت خافت:
“إن أردت العودة… يجب أن تنسى كل هذا. المدينة، أنا، والظلال.”
الاستيقاظ من الغيبوبة
استفاق يوسف على سرير أبيض، داخل مستشفى. فوقه ضوء ساطع، وجانب سريره طبيب يبتسم:
“حمدًا لله على عودتك يا يوسف… لقد كنت في غيبوبة أسبوعين، بعد أن سقطت من أعلى الجبل.”
نظر يوسف حوله بذهول. جسده سليم، لا آثار لأي جروح. لكنّ شيئًا في داخله تغيّر. حاول تذكّر ما جرى، فلم يستطع. فقط كان يشعر أنه عاش شيئًا حقيقيًا… لكنه لا يستطيع أن يتذكره.
وحين عاد إلى منزله، فتح دفتر ملاحظاته، فوجد صفحة واحدة مكتوبة، بخط ليس خطه، تحمل جملة واحدة:
“الظلال لا تموت، بل تنتظر من يوقظها.”
الخاتمة المفتوحة
مرت أسابيع، ويوسف قرر التوقف عن الكتابة. لكنه كل ليلة، كان يرى في منامه امرأة بثوب أسود، تقف على حافة المدينة، وتدعوه للدخول. ولم يكن يعرف… هل سيعود إليها يومًا؟ أم أنه لم يخرج منها حقًا؟
تعليقات